<!--
<!--<!--
من تمام نعمة الله تعالى في التربة أنها من الناحية الكيميائية كل معادن الطين و الدبال تحمل شحن كهربية سالبة . الشحن السالبة تنشأ من جراء تفتت الصخور الأساسية المكونة لها ومن تبادل الماغنسيوم (Mg+2) مثلاً للألمنيوم (Al+3) في طبقات ثمانية الجدران و كذلك في الدبال تنشأ الشحن السالبة من جراء فقد الهيدروجين و بذلك يمكن اعتبار أن كل معادن الطين و مخلفات المواد العضوية في التربة تحمل شحن كهربية سالبة. اقتضت سنة الله تعالى في الدنيا أن تعش كل المخلوقات في سلام مع ما حولها من البيئة. هذا السلام في حالة الشحنة الكهربية هو أن تنزع للتعادل و لكن مع ذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون سلام الأرض (التربة) في سالبيتها (negativity). هذا بالطبع نعمة كبرى ينبغي أن نكثر من الحمد لله عليها لأن الحياة بدونها على الكرة الأرضية قد تكون مستحيلة. هذه السالبية في الأرض ربما هي المقصودة بالبركة في قوله تعالى في سورة فصلت (قل أأنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين و تجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها و بارك فيها و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) الآيات 9 و10. عند النظر في تفسير (وبارك فيها) وجدت أن كلا من ابن كثير و الزمخشري و الشوكاني و أحمد علي الإمام قد أتفقوا على أن البركة هي كثرة الخير و بالتالي بارك فيها تعني "أكثر خيرها". أما تفسير الجلالين فقد أورد أن الله بارك في الأرض بكثرة المياه و الزروع و الضروع. ولكن أروع ما وقفت عليه هو ما جاء عن ابن القيم رحمه في كتابه بدائع الفوائد" الذي قال فيه (إن البركة لما كان مسماها كثرة الخير و استمراره شيئا بعد شيئ ، كلما انقضى منه فرد خلفه فرد آخر فهو خير مستمر بتعاقب الأفراد على الدوام شيئا بعد شيئ و لذلك دائما ما تجيئ مجموعة في لفظ بركات لتفيد الاستمرارية كما في قوله تعالى (رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت) سورة هود 73. و كما جاء في التشهد (السلام عليك أيها النبي و رحمة الله وبركاته). وبهذا المعنى فالبركة تعني استدامة الخير و لذلك استدامة (sustainability) السالبية (negativity) في غرويات التربة ربما كانت هي عين البركة. وجه البركة و النعمة في هذه السالبية تبرز من حقيقة أن معظم العناصر الغذائية للنبات تحمل شحن كهربية موجبة و كذلك جزيئ الماء يحمل شحن كهربية موجبة وسالبة في طرفيه و لذلك هذه الشحن السالبة في غرويات التربة تؤدي إلى إدمصاص العناصر الغذائية و الماء في تلك الغرويات و تمنعها من الإنجراف بعيدة في أغوار الأرض وبالتالي تجعلها متاحة لجذور النباتات ، فسبحان الله الذي اختتم آيات سورة فصلت بالعزيز العليم و الذي يعني العزيز الذي لا يغلبه شيئ و العليم بمصالح العباد ، فأنعم به رب
كذلك من الخصائص الطبيعية لمعادن التربة من طين أو طفل ، كما أسلفنا القول ، تتميز بأحجام صغيرة داخلة في نطاق ما يعلق عليه في الكيمياء بالحبيبات الغروية (colloidal particles) و بسبب أحجامها الصغيرة ، تتميز هذه الحبيبات الغروية في التربة بضخامة مساحة أسطحها مقارنة بأحجامها و كل هذه المساحة في التربة تحمل شحنة كهربية سالبة.
بعد هذا الاستعراض المبسط لبعض خواص التربة نحاول إسقاط ما توفر لدينا من معلومات علمية على ما جاء في الآيات الكريمة من سورة الحج و فصلت و عبس المذكورات في بداية هذا المقال و ذلك لإبراز ما جاء فيها من إعجاز القرآن الكريم. في البدء نقر بأن كل الأرض في الدنيا بنص الآيات تهتز و تربو لأن الآيات لم تستثن و لكن ربما اختلف مدى الاهتزاز و الربو من أرض لأخرى و فق ما تحتويه الأرض المعنية من معادن الطين فيقل الاهتزاز و الربو بقلة نسبة الطين و يزيدان بزيادتها.
النظام الغروي الذي أشرت إليه آنفاً يتكون من وسط سائل ووسط صلب و أحجام الأجسام الصلبة هذه صغيرة و تحمل شحن كهربية متماثلة و لها حالتان أحدهما صلبة تسمى الجلي (gel) و ذلك في غياب الوسط السائل و الثانية تسمى بالانجليزية (sol) و هي اختصار لكلمة (solution) و التي تعني المحلول. في حالة الجلي تكون هذه الأجسام الصلبة ساكنة و لا تتحرك و لكن عند إضافة الوسط السائل فإنها تتحرك بسرعة عالية و نسبة لأنها تحمل شحن كهربية متماثلة فإنها تتنافر و تقصف بعضها بعضاَ في حركة عشوائية و مستمرة و تسمى حركة هذه الأجسام بحركة براون في ذكرى العالم الاسكتلندي (Robert Brown) الذي اكتشفها. تجدر الإشارة إلى أن أحجام أكبر الأجسام التي تمارس هذه الحركة تتراوح من 100 إلى 2000 نانومتر.
أرجع لإسقاط هذه المعلومات على أية سورة الحج (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت) (5 الحج), نجد أولاً أن الماء كما في الآيات الأخرى جاء معرفاً بالألف و اللام كما أسلفت فإنه يعني جزئ الماء الشيء الذي يعني أن للماء في شكله الجزيئي دور هام في هذا الاهتزاز والربو. و جزيء الماء كما هو ثابت علمياً يحمل شحنتين كهربيتين متناقضتين على طرفي الجزيء إحداهما موجبة على طرف الهيدروجين (H+) و الثانية سالبة على طرف الأكسجين (O-) و لذلك يطلق على الماء ثنائي الأقطاب (Dipolar).
لذلك في الآية الكريمة من سورة الحج نجد أن الأرض وصفت بأنها هامدة و قد جاء تفسير معظم المفسرين أنها اليابسة ، إلا في تفسير الشوكاني فقد أضاف لذلك معنى أنها من همود النار إذا طفئت و كذلك جاء تفسير الشيخ أحمد على الإمام (رد الله له عافيته) أن الهمود يعني السكينة و الطمأنينة و جاء في مختار الصحاح كذلك أنها من همدت النار إذا طفئت. و إذا علمنا أن النقيض للأرض التي بها نبات هي الأرض البور و إن كان بها ماء ، يطمئن المرء على أن الهمود هو السكون أكثر منها من الأرض التي لا نبات عليها. و باعتبار أن الأرض (التربة) وسط غروي بحكم أحجام مكوناتها ذات الشحنة الكهربية المتماثلة (السالبة) فإنها في حالة عدم توفر الماء تكون هامدة أو ما يمكن أن نطلق عليه حالة الجلي (Gel) و إذا أضفنا لها الماء كما هي الحال عند هطول الأمطار أو الري تتحول إلى حالة (Sol).
عند إضافة الماء إلى التربة كما جاء في الآيات الكريمة فإن حبيبات التربة ذات الشحنة الكهربية السالبة تصير هي الأجزاء المنتشرة في المحلول الغروي فيما يصير الماء هو وسط الإنتشار و بذلك يتكون محلول غروي الأجزاء المنتشرة في المحلول الغروي إما أن تكون كلها ذات شحنة كهربية موجبة أو شحن كهربية سالبة لتظل في حالة تنافر و تقاصف دائم و بذلك لا يمكن له أن يترسب. عندما يكون الماء هو وسط انتشار كما هي الحال في غروية التربة (soil colloid) فإن ما يحدث أن الشحن السالبة في حبيبات التربة تحيط نفسها بحلقة من جزيئات الماء (Hydration shell) فتكون الشحن الموجبة لجزيئات الماء ملتصقة بحبيبات التربة فيما شحنتها السالبة تكون متجهة لخارج الحلقة و بذلك تحتفظ كل حبيبات التربة بشحنتها السالبة خارج حلقة جزيئات الماء التي حولها و تتنافر و تتقاصف بعنف و كما أسلفنا فإن هذه الحركة تسمى حركة براون (Brownian movement) و بالطبع ربما كانت هي نفس الاهتزاز الذي ذكره الله قبل اربعة عشر قرناً في سورة الحج و فصلت .
في الواقع حكم الله كثيرة لا يمكن الإحاطة بها و لكن نحاول أن نفهم بعضاً منها و في هذا أرى أن إحدى الحكم من هذا الاهتزاز الناتج عن حركة براون هو إدمصاص العناصر الغذائية من قبل حبيبات التربة بمعنى أنها تزيد من فرص التقاء العناصر الغذائية مع حبيبات التربة. و في هذا أقول أن العناصر الغذائية كذلك تحيط نفسها بحلقة مائية (Hydration shell) و تختلف العناصر في حجم هذه الحلقة حيث أن العناصر الثنائية التكافؤ مثل الكالسيوم (Ca+2) و الماغنسيوم (Mg+2) لها حلقات مائية أقل من تلك التي في الصوديوم (Na+1). لذلك يسهل إدمصاص كلا من الكالسيوم و الماغنسيوم من قبل حبيبات التربة منها من إدمصاص الصوديوم. لذلك عند حركة حبيبات التربة السالبة الشحن الكهربية تلتقي بذرات العناصر الغذائية فيحدث الإدمصاص و تترسب و بذلك تحفظ تلك العناصر قريبة من جذور النبات علاوة على أثرها في إصلاح حالة التربة من حيث النفاذية.
تجدر الإشارة إلى أن إدمصاص جزيئات الماء من قبل الشحن السالبة على حبيبات التربة يختلف عن إدمصاص العناصر الغذائية في أن الأولى تتأثر بدرجات الحرارة أكثر منها من الثانية و كذلك قوة إدمصاص جزيئات الماء أقل منها من قوة إدمصاص العناصر الغذائية و لذلك يسهل فقدها عند ارتفاع درجات الحرارة. وبالإضافة لذلك فإن إدمصاص العناصر الغذائية يتميز بالتساوي في التكافؤ عند استبدال عنصر ملتصق بالاسطح السالبة بأخرى فمثلا إذا تم تحرير ذرة كالسيوم (Ca+2) من على سطح حبيبات التربة فإنه يستبدل بذرتين من البوتاسيوم (K+1) ذات الشحنة الموجبة الواحدة ، أما في حالة الماء فليس هنالك تكافؤ قوي بين الشحنات السالبة على اسطح حبيبات التربة و الشحن الموجبة على الماء الشيء الذي يعني غياب التكافؤ الكمي بين الجزيئات المدمصة و الجزيئات الحرة في الماء في محلول التربة.
قبل التعرض لجزيية (ربت) الواردة في آيتي سورة الحج (5) و فصلت (39) لابد من الحديث عن مفردة "خاشعة" في الآية 39 من سورة فصلت. جاء في كثير من التفاسير أن كلمة خاشعة مرادفة لكلمة هامدة في الآية (5) من سورة الحج, و هنا استحضر مقولة الشيخ أحمد على الإمام (رد الله له عافيته) الذي قال مرة أن القرآن ليس به سكن عشوائي بمعنى أن أي كلمة في القرآن جاءت لتفيد معنى معين و بهذا الفهم لو كان معنى خاشعة و هامدة مترادفتين لجاءت كلمة واحدة في الآيتين. وباستعراض معنى كلمة خشع نجد أنها وردت بمعنى خفض في الآية (108) من سورة طه (يومئذ يتّبعون الدّاعي لا عوج له ، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ) يبدو واضحاً أن خشعت هنا تعني انخفضت و كذلك جاء في معناها في مختار الصحاح الخُشعة بوزن الجُمعة أكمة (مفرد آكام) متواضعة. و من الملاحظ في الواقع أن الأرض التي تنتفخ بالماء كالأراضي أواسط السودان تنكمش في خلال فترات الجفاف الشيء الذي يتسبب في تشقق المباني و عليه الأرض الخاشعة أقرب ما تكون إلى الأرض المنكمشة التي تعني المنخفضة. هذا الانخفاض ربما لا نراه بالعين ولكن يظهر جلياً في حالة تشقق المنازل. و على هذا الفهم فإن الأرض تربو عند إضافة الماء. ولفهم طريقة انتفاخ الأرض نسترجع معادن الطين التي ذكرناها في هذا المقال ونقول أن أكثر أنواع معادن الطين انتفاخاً بالماء هو الاسمكتايت تليه المايكا و أقلها الكالونايت. و يختلف مدى انتفاخ الأرض من مكان لآخر بناء على محتوياتها من معادن الطين و بالطبع أكثر انتفاخاً هي الأراضي الغنية في الاسمكتايت كما هي الحال في أراضي أواسط السودان وقد وجد أن الكثافة الظاهرية لأراضي أواسط السودان تقل من 1.8جرام/سم³ في الأراضي الجافة إلى 1.1 جرام/سم³ في الأراضي المشبعة بالماء. عملية تغيير الكثافة الظاهرية تحدث نتيجة للاختلاف في الحجم و لذلك الانخفاض في الحجم عند الانكماش يؤدي إلى انخفاض الأرض عن ما كانت عليه عند الانتفاخ و هذا الانخفاض ربما كان هو المشار إليه في آية سورة فصلت "بالخاشعة". بالطبع ذكرنا أن الأسطح الداخلية لمعدن الاسمكتايت أكثر من الأسطح الخارجية لها و أن قابلية التمدد و الإنكماش فيها من 1-4 نانومتر ، لذلك تدخل جزيئات الماء إلى داخلها فتلتصق الشحنات الموجبة للماء بالأسطح الداخلية و الخارجية و تكون سلسلة أولى من جزيئات الماء حول معدن الطين من داخله و خارجه ثم تبرز تلك الطبقة شحناتها السالبة إلى الخارج لتلتصق بها جزيئات أخرى من الماء و هكذا تتكون سلاسل من الماء و تكون السلسلة الداخلية أقوى السلاسل التصاقاً و تقل قوة الإلتصاق كلما بعدنا إلى الخارج. هذه السلاسل من الماء هي التي تزيد في حجم معدن الطين لتربو كما جاء في التعبير القرآني. إذا تخيلنا ملايين الجسيمات الغروية من معدن الاسمكتايت و أن كلاَ منها تزيد من 1-4 نانومتر يمكن تخيل الزيادة في حجم التربة والتي عند إنكماشها تؤدي إلى تصدع المباني عليها. قد لا ندرك كنه كل الحكم في هذا الانتفاخ و لكن ربما أحدها أنها تساعد على حفظ الماء إلى حين ، لفائدة النبات و يتضح ذلك جلياً إذا قارنا سعة حفظ الماء في الأراضي الطينية مقارنة بالأراضي الرملية التي ليست لها أي قدرة على حفظ الماء و بذلك تمنع هذه الخاصية غيض الماء وانجراف المعادن بعيدة عن جذور النبات بأن تصير غوراً لا يمكن الاستفادة منه و سبحان الله القائل (قل إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين) (30 الملك)
أما ما جاء في آية عبس ( إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حبا) (27). فقد قلنا أن الفعل صببنا و التأكيد بالمفعول المطلق يفيد الماء الكثير وفي هذه الحالة تلتصق جزيئات الماء بالطين كما ذكر أعلاه و بالطبع قلت أن جزيئات الماء البعيدة عن معدن الطين هي أضعف الجزيئات إلتصاقاً ولذلك وفقاً للآية من سورة الحجر (وما أنتم له بخازنين) وكما تشير آية عبس ، ثم التي تفيد التعاقب مع التراخي و مع ارتفاع درجات الحرارة تفقد الجزيئات البعيدة من حبيبات الطين بالبخر فتنشق الأرض تبعاً لذلك فيهيأ الوضع المناسب لخروج النبات و لذلك أتت فأنبتنا فيها حباً معطوفة بالفاء الذي يدل على التعاقب الفوري. و الله أعلم
بالطبع لا ندرك كنه كل حكم الله في هذا التشقق ولكن ما يمكن تخيله أن الأرض المشبعة بالماء تكون نسبة الهواء فيها قليلة و النبات النامي يحتاج إلى أكسجين و لذلك هذا التشقق ربما كان سببا للتهوية و إدخال الهواء لمنطقة جذور النبات وقد رأيت بأم عيني عندما كنت أدرس في الولايات المتحدة أن ميادين الرياضة التي تتعرض للتصلب من جراء اللعب عليها دائماً ما يحدثون فيها حفراً صغيرة بالآلة لزوم التهوية لجذور النجيلة. فسبحان الذي أوحى إلى عبده محمد صلّى الله عليه و سلم كل هذه العلوم الطبيعية التي يتناولها اليوم علماء طبيعة و كيمياء التربة و أودعها في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه قبل أربعة عشر قرناً من الزمان . فإن أحسنت الفهم فمن الله و إن أخطأت فمن نفسي و الشيطان
ساحة النقاش